قوله : ( حدثنا يحيى بن بكير )
هو يحيى بن عبد الله بن بكير نسبة إلى جده لشهرته بذلك , وهو من كبار حفاظ المصريين , وأثبت الناس في الليث بن سعد الفهمي فقيه المصريين . وعقيل بالضم على التصغير , وهو من أثبت الرواة عن ابن شهاب , وهو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الفقيه , نسب إلى جد جده لشهرته , الزهري نسب إلى جده الأعلى زهرة بن كلاب , وهو من رهط آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم , اتفقوا على إتقانه وإمامته .
قوله : ( من الوحي )
يحتمل أن تكون " من " تبعيضية , أي : من أقسام الوحي , ويحتمل أن تكون بيانية ورجحه القزاز . والرؤيا الصالحة وقع في رواية معمر ويونس عند المصنف في التفسير " الصادقة " وهي التي ليس فيها ضغث , وبدئ بذلك ليكون تمهيدا وتوطئة لليقظة , ثم مهد له في اليقظة أيضا رؤية الضوء وسماع الصوت وسلام الحجر .
قوله : ( في النوم )
لزيادة الإيضاح , أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لجواز إطلاقها مجازا .
قوله : ( مثل فلق الصبح )
بنصب مثل على الحال , أي : مشبهة ضياء الصبح , أو على أنه صفة لمحذوف , أي : جاءت مجيئا مثل فلق الصبح . والمراد بفلق الصبح ضياؤه . وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه .
قوله : ( حبب )
لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك وإن كان كل من عند الله , أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر , أو يكون ذلك من وحي الإلهام . والخلاء بالمد الخلوة , والسر فيه أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له . وحراء بالمد وكسر أوله كذا في الرواية وهو صحيح , وفي رواية الأصيلي بالفتح والقصر وقد حكي أيضا , وحكي فيه غير ذلك جوازا لا رواية . هو جبل معروف بمكة . والغار نقب في الجبل وجمعه غيران .
قوله : ( فيتحنث )
هي بمعنى يتحنف , أي : يتبع الحنفية وهي دين إبراهيم , والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم . وقد وقع في رواية ابن هشام في السيرة " يتحنف " بالفاء أو التحنث إلقاء الحنث وهو الإثم , كما قيل يتأثم ويتحرج ونحوهما .
قوله : ( وهو التعبد )
هذا مدرج في الخبر , وهو من تفسير الزهري كما جزم به الطيبي ولم يذكر دليله , نعم في رواية المؤلف من طريق يونس عنه في التفسير ما يدل على الإدراج .
قوله : ( الليالي ذوات العدد )
يتعلق بقوله يتحنث , وإبهام العدد لاختلافه , كذا قيل . وهو بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله , وإلا فأصل الخلوة قد عرفت مدتها وهي شهر , وذلك الشهر كان رمضان رواه ابن إسحاق . والليالي منصوبة على الظرف , وذوات منصوبة أيضا وعلامة النصب فيه كسر التاء . وينزع بكسر الزاي أي : يرجع وزنا ومعنى , ورواه المؤلف بلفظه في التفسير .
قوله : ( لمثلها )
أي : الليالي . والتزود استصحاب الزاد . ويتزود معطوف على يتحنث . وخديجة هي أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى , تأتي أخبارها في مناقبها .
قوله : ( حتى جاءه الحق )
أي : الأمر الحق , وفي التفسير : حتى فجئه الحق - بكسر الجيم - أي بغته . وإن ثبت من مرسل عبيد بن عمير أنه أوحي إليه بذلك في المنام أولا قبل اليقظة , أمكن أن يكون مجيء الملك في اليقظة عقب ما تقدم في المنام . وسمي حقا لأنه وحي من الله تعالى . وقد وقع في رواية أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول شأنه يرى في المنام , وكان أول ما رأى جبريل بأجياد , صرخ جبريل " يا محمد " فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا , فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال " يا محمد , جبريل " فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئا , ثم خرج عنهم فناداه فهرب . ثم استعلن له جبريل من قبل حراء ,
فذكر قصة إقرائه ( اقرأ باسم ربك )
ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر , وهذا من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود , وابن لهيعة ضعيف . وقد ثبت في صحيح مسلم من وجه آخر عن عائشة مرفوعا " لم أره - يعني جبريل - على صورته التي خلق عليها إلا مرتين " , وبين أحمد في حديث ابن مسعود أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التي خلق عليها , والثانية عند المعراج . وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة " لم ير محمد جبريل في صورته إلا مرتين : مرة عند سدرة المنتهى , ومرة في أجياد " وهذا يقوي رواية ابن لهيعة , وتكون هذه المرة غير المرتين المذكورتين , وإنما لم يضمها إليهما لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته , والعلم عند الله تعالى . ووقع في السيرة التي جمعها سليمان التيمي فرواها محمد بن عبد الأعلى عن ولده معتمر بن سليمان عن أبيه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في حراء وأقرأه ( اقرأ باسم ربك ) ثم انصرف , فبقي مترددا , فأتاه من أمامه في صورته فرأى أمرا عظيما .
قوله : ( فجاءه )
هذه الفاء تسمى التفسيرية وليست التعقيدية ; لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي حتى تعقب به , بل هو نفسه , ولا يلزم من هذا التقرير أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه , بل التفسير عين المفسر به من جهة الإجمال , وغيره من جهة التفصيل .
قوله : ( ما أنا بقارئ )
ثلاثا . " ما " نافية , إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء , وإن حكي عن الأخفش جوازه فهو شاذ , والباء زائدة لتأكيد النفي , أي : ما أحسن القراءة . فلما قال ذلك ثلاثا قيل له ( اقرأ باسم ربك ) أي : لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك , لكن بحول ربك وإعانته , فهو يعلمك , كما خلقك وكما نزع عنك علق الدم وغمز الشيطان في الصغر , وعلم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمية , ذكره السهيلي . وقال غيره : إن هذا التركيب - وهو قوله ما أنا بقارئ - يفيد الاختصاص . ورده الطيبي بأنه إنما يفيد التقوية والتأكيد , والتقدير : لست بقارئ ألبتة . فإن قيل : لم كرر ذلك ثلاثا ؟ أجاب أبو شامة بأن يحمل قوله أولا " ما أنا بقارئ " على الامتناع , وثانيا على الإخبار بالنفي المحض , وثالثا على الاستفهام . ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال : كيف أقرأ وفي رواية عبيد بن عمير عن ابن إسحاق : ماذا أقرأ ؟ وفي مرسل الزهري في دلائل البيهقي : كيف أقرأ ؟ كل ذلك يؤيد أنها استفهامية . والله أعلم .
قوله : ( فغطني )
بغين معجمة وطاء مهملة , وفي رواية الطبري بتاء مثناة من فوق كأنه أراد ضمني وعصرني , والغط حبس النفس , ومنه غطه في الماء , أو أراد غمني ومنه الخنق . ولأبي داود الطيالسي في مسنده بسند حسن : فأخذ بحلقي .
قوله : ( حتى بلغ مني الجهد )
روي بالفتح والنصب , أي : بلغ الغط مني غاية وسعي . وروي بالضم والرفع أي بلغ مني الجهد مبلغه . وقوله " أرسلني " أي : أطلقني , ولم يذكر الجهد هنا في المرة الثالثة , وهو ثابت عند المؤلف في التفسير .
قوله : ( فرجع بها )
أي بالآيات أو بالقصة .
قوله : ( فزملوه )
أي : لفوه . والروع بالفتح الفزع .
قوله : ( لقد خشيت على نفسي )
دل هذا مع قوله " يرجف فؤاده " على انفعال حصل له من مجيء الملك , ومن ثم قال " زملوني " . والخشية المذكورة اختلف العلماء في المراد بها على اثني عشر قولا : أولها : الجنون وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة , جاء مصرحا به في عدة طرق , وأبطله أبو بكر بن العربي وحق له أن يبطل , لكن حمله الإسماعيلي على أن ذلك حصل له قبل حصول العلم الضروري له أن الذي جاءه ملك وأنه من عند الله تعالى . ثانيها : الهاجس , وهو باطل أيضا ; لأنه لا يستقر وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة . ثالثها : الموت من شدة الرعب . رابعها : المرض , وقد جزم به ابن أبي جمرة . خامسها : دوام المرض . سادسها : العجز عن حمل أعباء النبوة . سابعها : العجز عن النظر إلى الملك من الرعب . ثامنها : عدم الصبر على أذى قومه . تاسعها : أن يقتلوه . عاشرها : مفارقة الوطن . حادي عشرها : تكذيبهم إياه . ثاني عشرها : تعييرهم إياه . وأولى هذه الأقوال بالصواب وأسلمها من الارتياب الثالث واللذان بعده , وما عداها فهو معترض . والله الموفق .
__________________